أدرك آدم من الحوار أن إبليس مخلوق يتصف باللؤم كما يتصف بالجحود. إنه يسأل الله تعالى أن يبقيه إلى يوم البعث، لا يريد إبليس أن يموت، غير أن الله تعالى يفهمه أنه سيبقى إلى يوم الوقت المعلوم.. سيبقى إلى أن يحين أجله فيموت.. أدرك آدم أن الله قد لعن إبليس ، وطرده من رحمته بسببه، أدرك أن إبليس لن ينسى له هذا الصنيع.. انتهى الأمر وعرف آدم عدوه الأبدي.. وأدهشت آدم بعض الدهشة جرأة عدوه وحلم الله عز وجل؟؟
ربما قال لي قائل: لماذا استبعدت أن يكون قد جرى حوار بين الله عز وجل وملائكته.. ولجأت إلى تأويل الآيات، ولم تستبعد وقوع حوار بين الله تعالى وإبليس؟ وأقول ردا على ذلك: إن العقل يهدي لهذه النتيجة.. إن إمكان قيام حوار بين الله وتعالى وملائكته أمر مستبعد، لأن الملائكة منزهون عن الخطأ والقصور والرغبات البشرية التي تبحث عن المعرفة. انهم بحكم خلقهم، جند طائعون مكرمون.. أما إبليس فهو خاضع للتكليف، وطبيعته، بوصفه من الجن، قريبة من طبيعة جنس آدم.. بمعنى أن الجن يمكن أن يؤمنوا، ويمكن أن يكفروا.. إن وجدانهم الديني يمكن أن يسوقهم إلى تصور خاطئ يسند كبرياء كاذبة.. ومن هذا الموقع وبحكم هذا التكوين، يمكن أن ينشأ حوار.. والحوار يعني الحرية، ويعني الصراع. ولقد كانت طبيعة البشر والجان مركبة بشكل يسمح لهم بالحرية، ويسمح لهم بالصراع. أما طبيعة الملائكة فمن لون آخر لا تدخل الحرية في نسيجه.
إن إبليس رفض أن يسجد لآدم.. كان الله تعالى يعلم أنه سيرفض السجود لآدم.. سوف يعصاه.. وكان الله يستطيع أن ينسفه نسفا، أو يحيله إلى حفنة من التراب، أو يخنق بعزته وجلاله كلمة الرفض في فم إبليس.. غير أن الله تعالى يعطي مخلوقاته المكلفة قدرا من الحرية لا يعطيه غيره أحدا.. إنه يعطيهم حرية مطلقة تصل إلى حق رفض أوامره سبحانه.. إنه يمنحهم حرية الإنكار وحرية العصيان، وحرية الاعتراض عليه.. سبحانه وتعالى. لا ينقص من ملكه أن يكفر به الكافرون، ولا يزيد من ملكه أن يؤمن به المؤمنون، إنما ينقص ذلك من ملك الكافرين، أو يزيد في ملك المؤمنين.. أما هو.. فتعالى عن ذلك.. فهم آدم أن الحرية نسيج أصيل في الوجود الذي خلقه الله.. وأن الله يمنح الحرية لعباده المكلفين.. ويرتب على ذلك جزاءه العادل.
بعد درس الحرية.. تعلم آدم من الله تعالى الدرس الثاني.. وهو العلم.. كان آدم قد أدرك أن إبليس هو رمز الشر في الوجود، كما أدرك أن الملائكة هم رمز الخير، أما هو نفسه فلم يكن يعرف نفسه حتى هذه اللحظة.. ثم أطلعه الله سبحانه وتعالى على حقيقته، وحكمة خلقه، وسر تكريمه.. قال تعالى:
وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا
أعطاه الله تعالى سر القدرة على اختصار الأشياء في رموز ومسميات. علمه أن يسمي الأشياء: هذا عصفور، وهذا نجم، وهذه شجرة، وهذه سحابة، وهذا هدهد، وهذه …، إلى آخر الأسماء. تعلم آدم الأسماء كلها. الأسماء هنا هي العلم.. هي المعرفة.. هي القدرة على الرمز للأشياء بأسماء.. غرس الله في نفس آدم معرفة لا نهاية لها، وحبا للمعرفة لا نهاية له، ورغبة يورثها أبناءه في التعلم.. وهذه هي الغاية من خلق آدم، وهذا هو السر في تكريمه.
بعد أن تعلم آدم أسماء الأشياء وخواصها ومنافعها، بعد أن عرف علمها، عرض الله هذه الأشياء على الملائكة فقال:
أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
(يقصد صادقين في رغبتكم في الخلافة).. ونظر الملائكة فيما عرض الله عليهم، فلم يعرفوا أسماءه.. واعترفوا لله بعجزهم عن تسمية الأشياء أو استخدام الرمز في التعبير عنها.. قال الملائكة اعترافا بعجزهم: سُبْحَانَكَ (أي ننزهك ونقدسك)، لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (ردوا العلم كله إلى الله).
قال الله تعالى لآدم:
يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ
وحدثهم آدم عن كل الأشياء التي عرضها الله عليهم ولم يعرفوا أسمائها.
قال تعالى في سورة (البقرة):
وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ (31) صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ
أراد الله تعالى أن يقول للملائكة إنه علم ما أبدوه من الدهشة حين أخبرهم أنه سيخلق آدم، كما علم ما كتموه من الحيرة في فهم حكمة الله، كما علم ما أخفاه إبليس من المعصية والجحود.. أدرك الملائكة أن آدم هو المخلوق الذي يعرف.. وهذا أشرف شيء فيه.. قدرته على التعلم والمعرفة.. وعرف الملائكة لماذا أمرهم الله بالسجود له.. كما فهموا السر في أنه سيصبح خليفة في الأرض، يتصرف فيها ويتحكم فيها.. بالعلم والمعرفة.. معرفة بالخالق.. وهذا ما يطلق عليه اسم الإيمان أو الإسلام.. وعلم بأسباب استعمار الأرض وتغييرها والتحكم فيها والسيادة عليها.. ويدخل في هذا النطاق كل العلوم المادية على الأرض.
إن نجاح الإنسان في معرفة هذين الأمرين (الخالق وعلوم الأرض) يكفل له حياة أرقى.. فكل من الأمرين مكمل للآخر.
كان آدم يحس الوحدة.. ونام آدم يوما ما فلما استيقظ وجد عند رأسه امرأة تحدق في وجهه بعينين جميلتين ورحيمتين.. وربما دار بينهما هذا الحوار:
قال آدم: لم تكوني هنا قبل أن أنام.
قالت: نعم.
قال: جئت أثناء نومي إذن؟
قالت: نعم
قال: من أين جئت…؟
قالت: جئت من نفسك.. خلقني الله منك وأنت نائم.. ألا تريد أن تستعيدني إليك وأنت مستيقظ؟
قال آدم: لماذا خلقك الله؟
قالت حواء: لتسكن إلي.
قال آدم: حمدا لله.. كنت أحس الوحدة
سألته الملائكة عن اسمها. قال إن اسمها حواء.. سألوه: لماذا سميتها حواء يا آدم؟
قال آدم: لأنها خلقت مني.. وأنا إنسان حي
وأصدر الله تعالى أمره لآدم بسكنى الجنة. قال تعالى في سورة (البقرة):
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ
لا نعرف مكان هذه الجنة. سكت القرآن عن مكانها واختلف المفسرون فيها على خمسة وجوه. قال بعضهم: إنها جنة المأوى، وأن مكانها السماء. ونفى بعضهم ذلك لأنها لو كانت جنة المأوى لحرم دخولها على إبليس ولما جاز فيها وقوع عصيان. وقال آخرون: إنها جنة المأوى خلقها الله لآدم وحواء. وقال غيرهم: إنها جنة من جنات الأرض تقع في مكان مرتفع. وذهب فريق إلى التسليم في أمرها والتوقف.. ونحن نختار هذا الرأي. إن العبرة التي نستخلصها من مكانها لا تساوي شيئا بالقياس إلى العبرة التي تستخلص مما حدث فيها.