كان نوح تقيا صادقا أرسله الله ليهدي قومه وينذرهم عذاب الآخرة ولكنهم عصوه وكذبوه، ومع ذلك استمر يدعوهم إلى الدين الحنيف فاتبعه قليل من الناس، واستمر الكفرة في طغيانهم فمنع الله عنهم المطر ودعاهم نوح أن يؤمنوا حتى يرفع الله عنهم العذاب فآمنوا فرفع الله عنهم العذاب ولكنهم رجعوا إلى كفرهم، وأخذ يدعوهم 950 سنة ثم أمره الله ببناء السفينة وأن يأخذ معه زوجا من كل نوع ثم جاء الطوفان فأغرقهم أجمعين.
قبل أن يولد قوم نوح عاش خمسة رجال صالحين من أجداد قوم نوح، عاشوا زمنا ثم ماتوا، كانت أسماء الرجال الخمسة هي: (ودَّ، سُواع، يغوث، يعوق، نسرا). بعد موتهم صنع الناس لهم تماثيل في مجال الذكرى والتكريم، ومضى الوقت.. ومات الذين نحتوا التماثيل.. وجاء أبنائهم.. ومات الأبناء وجاء أبناء الأبناء.. ثم نسجت قصصا وحكايات حول التماثيل تعزو لها قوة خاصة.. واستغل إبليس فرصته وهي تمر إلى جواره، وأوهم الناس أن هذه تماثيل آلهة تملك النفع وتقدر على الضرر.. وبدأ الناس يعبدون هذه التماثيل.
من الأمور المعروفة لدينا أنه عندما يستبدل الإنسان عبادته لله بعبادة شيء آخر، ينتكس العقل البشري، ويتبع ذلك أن يزيد ظلم الظالمين وذل المظلومين، كما يزيد فقر الفقراء وغنى الأغنياء.. ويتحول الوجود الإنساني كله إلى جحيم لا يحتمل.
ينطبق هذا القانون دائما عندما يعبد الناس غير الله.. سواء أكان المعبود صنما من الحجارة، أم عجلا من الذهب، أم حاكما من الناس، أم نظاما من الأنظمة، أم مذهبا من المذاهب، أم قبر ولي من الأولياء. ذلك أن الضمان الوحيد للمساواة بين البشر يكمن في عبوديتهم جميعا لله، وكون الله هو خالقهم والمشرع لهم.. فإذا ضاع هذا الضمان، وادعى أحد من الناس، أو زعم أحد الأنظمة لنفسه حق الألوهية، فقد ضاع الناس وضاعت حرياتهم تماما.
وليست عبادة غير الله مأساة تتمثل في ضياع الحرية وحدها، وإنما يمتد أثرها الخطير إلى عقل الإنسان فيلوثه وينكس أعلامه ويدمره. ذلك أن الله تعالى خلق الإنسان ليعرف، وجعل عقله جوهرة هدفها العلم.. وأخطر علم هو العلم بأن الله وحده هو الخالق وما سواه عبيد. هذه نقطة بدء لا بد منها لتحقيق الخلافة بنجاح.
وعندما يهدر العقل البشري إمكانياته، وينصرف لغير الله، لا يعود هناك خطأ يتوقف عنده العقل البشري، أو يراجع نفسه فيه.. وقد يحدث أن يتقدم الإنسان ماديا بسبب أخذه بأسباب التقدم رغم عدم إيمانه، ولكن هذا التقدم المادي الذي لا يخلو من معرفة الله، يكون عذابا أعظم من أي عذاب، لأنه ينتهي بتحطيم الإنسان لنفسه.. وعندما يعبد الناس غير الله تعالى، يزداد بؤس الحياة وفقر الناس.. هناك علاقة وثيقة بين ذل الناس، وفقرهم وعدم إيمانهم بالله وعدم تقواهم. يقول الله تعالى في سورة (الأعراف):
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
وهكذا يؤدي الكفر بالله أو الشرك به إلى ذهاب الحرية، وتحطيم العقل، وزيادة الفقر، وخلو الحياة من هدف نبيل. وفي هذا الجو أظهر الله تعالى نوحا وبعثه برسالته إلى قومه.
كان نوح بمقياس العظمة أعظم إنسان في عصره. لم يكن ملكا في قومه، ولا رئيسا عليهم، ولا أغنى واحد فيهم. فالعظمة الحقيقة ليست في لاملك أو الرئاسة أو الغنى مكا يعتقد البعض الآن. إنما توجد العظمة في خضوع القلب لله ونقاءه، وطهارة الضمير، وقيمة الأفكار التي يحملها العقل، وقدرة هذا العقل على تغيير الحياة حوله. وكان نوح هذا كله وأكثر.
كان على الفطرة مؤمنا بالله تعالى. قبل بعثته إلى الناس، وكل الأنبياء مؤمنون بالله تعالى قبل بعثتهم. وهناك سبب آخر لعظمة نوح. كان إذا استيقظ أو نام أو شرب أو أكل أو لبس ملابسه أو خرج أو دخل، يشكر الله ويحمده، ويذكر نعمته عليه، ويعاود الشكر، ولهذا قال الله تعالى عن نوح:
إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا